عندما تتحول الاضطرابات النفسية إلى طريق خفي نحو الخرف

تؤكد دراسة جديدة نشرتها مجلة BMJ Mental Health أن الاضطرابات النفسية ليست مجرد محطات عابرة في حياة الإنسان، بل قد تكون مؤشرات مبكرة على أمراض أكثر قسوة في المستقبل، وعلى رأسها الخرف. الخطر يتضاعف بشكل خاص عندما تتزامن عدة اضطرابات في آن واحد، مثل الاكتئاب والقلق أو الاضطرابات الذهانية، لتفتح الباب أمام سلسلة من التغيرات العصبية التي تضعف الذاكرة وتسرّع التدهور المعرفي.

لطالما ربطت الأبحاث بين الاكتئاب منفردًا أو القلق وحده وبين ارتفاع احتمال الإصابة بالخرف، لكن الجديد في هذه الدراسة هو الكشف عن قوة التأثير حين تتراكم الاضطرابات النفسية أو تتكرر على مدى سنوات. عندها يصبح الدماغ أكثر عرضة للالتهابات المزمنة، للاختلالات الكيميائية، وللإجهاد التأكسدي الذي يدمّر الخلايا العصبية ببطء.

المسألة لا تقتصر على الجانب البيولوجي فقط. فالحياة اليومية لمن يعانون من اضطرابات نفسية تحمل معها عوامل إضافية تعزز هذا الخطر: نوم مضطرب، عزلة اجتماعية، قلة النشاط البدني، وأحيانًا أنماط غذائية سيئة. هذه العناصر مجتمعة ترسم مسارًا صامتًا يقود نحو الخرف، حتى دون أن يلحظه المريض أو محيطه المباشر.

وتشير النتائج إلى أن الأشخاص الذين يعيشون مع أكثر من اضطراب نفسي لا يحتاجون فقط إلى علاج يخفف أعراضهم الراهنة، بل إلى متابعة معرفية دقيقة على المدى الطويل، باعتبارهم من الفئات الأكثر هشاشة. ويشدد الباحثون على أن الكشف المبكر والتدخل النفسي الشامل قد يشكلان عاملًا حاسمًا في تقليص المخاطر المستقبلية، أو على الأقل تأجيلها.

هذه المعطيات تعيد رسم العلاقة بين الصحة النفسية والدماغ. فما كان يُنظر إليه في الماضي كمعاناة وجدانية أو اضطراب في المزاج، يتضح اليوم أنه مسألة عضوية عميقة ترتبط مباشرة بسلامة القدرات الإدراكية في الشيخوخة. وهنا تكمن خطورة الإهمال: كل نوبة اكتئاب غير معالجة، كل قلق مزمن متروك دون رعاية، قد يكون خطوة إضافية نحو فقدان الذاكرة والهوية.

الرسالة التي تبعثها هذه الدراسة واضحة: الاستثمار في الصحة النفسية ليس رفاهية اجتماعية، بل سياسة وقائية ضد أحد أكثر أمراض الشيخوخة قسوة. فالدفاع عن التوازن النفسي اليوم، هو في جوهره دفاع عن ذاكرة الغد.

مالك سعدو

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد